الكذب- آفة العصر وتحدي الضمير في عالم التواصل.

المؤلف: محمد العتيبي11.11.2025
الكذب- آفة العصر وتحدي الضمير في عالم التواصل.

لقد ظلّ وزير الدعاية النازي الشهير، جوزيف غوبلز، يمارس الكذب المتواصل والممنهج، حتى بات أسيرًا لأكاذيبه، وانجر خلفه الناس لتصديقها، محققًا بذلك فلسفته القائمة على الحرب النفسية، والخداع، والتضليل الإعلامي. ولكن، في نهاية المطاف، كانت العواقب وخيمة ومدمرة على غوبلز نفسه وعلى كل من وثقوا به، ليصبحوا جميعًا ضحايا لهذا الزيف والخداع.

وعلى الرغم من أن مرّ العقود والتجارب القاسية قد كشفت زيف هذه المقولة مرارًا وتكرارًا، إلا أن الواقع المرير يشير إلى أن الكذب –تلك الآفة السلوكية غير الأخلاقية والمنبوذة اجتماعيًا ودينيًا، ولو نظريًا– يشهد ازديادًا مطردًا وتوسعًا مستمرًا، وأن أتباعه يزدادون وينتشرون بشكل ملحوظ وبوتيرة متسارعة.

تكشف دراسات علم النفس الحديثة أن الفرد الواحد يمارس الكذب في المتوسط من مرتين إلى ثماني مرات في اليوم الواحد. ويبرر هؤلاء الأفراد لجوئهم إلى الكذب بأسباب ودوافع متعددة لا حصر لها، وغالبًا ما يحاولون، من باب التخفيف و"راحة الضمير"، تجميل أكاذيبهم ومنحها صبغة "بيضاء" لتقليل حدّتها أو لتبرير سلوكهم ومنحه صكّ غفران وبراءة تامة! وتحت هذا الغطاء المخادع، تفشّت ظاهرة الكذب لتصبح، بقصد أو بدون قصد، جزءًا لا يتجزأ من علاقاتنا، وأحاديثنا، وكلماتنا، ومجاملاتنا، وتواصلنا اليومي، وحتى في معاملاتنا التجارية، وفي عملنا، بل وحتى في إرشاداتنا وتوجيهاتنا لأطفالنا، والتي دائمًا ما تتضمن تحذيرهم من "الكذب!".

يرى مايكل لويس، البروفيسور المتخصص في الطب النفسي بجامعة راتجرز، أن الكذب على مر العصور كان بمثابة "ضرورة تطورية" يحتمي بها الإنسان من الأذى والضرر. ومع ذلك، فإننا غالبًا ما نتجاهل حقيقة أننا، بلجوئنا إلى الكذب، لا نفعل شيئًا سوى تأجيل هذا "الأذى" وربما مضاعفة تأثيره السلبي، وأن "الصدق"، بكل ما يترتب عليه من مكاشفة ومصارحة، وأحيانًا انطباعات وآراء صادمة، يبقى هو الطريق الأقصر والأكثر فعالية لكسب احترام الذات قبل احترام الآخرين، ولبناء علاقات قوية ومتينة خالية من الشوائب والمخاطر، وسيظل دائمًا الوسيلة الأنجع لتطوير الذات وتحسين الأداء على كافة المستويات.

تحت شعار "أنا لا أكذب، بل أتجمّل فحسب"، وتحت وطأة الرغبة في "حماية النفس والآخرين" من المواقف المحرجة والأذى المحتمل، تتدفق في حياتنا اليومية كميات هائلة ولا حصر لها من الأكاذيب والعبارات المعسولة والمضللة. نتوهم أحيانًا أنها بمثابة طوق النجاة الذي سينقذنا من موقف صعب أو إخفاق ما، وأحيانًا أخرى نعتقد أنها وسيلة فعالة لكسب ود الآخرين واحترامهم وتقبلهم ورضاهم، ولو بشكل مؤقت. فالإنسان بطبعه يعاني دائمًا من عقدة "القبول" الاجتماعي، ولا يمانع في بذل جهود استثنائية فسيولوجية وفيزيائية لتحقيق هذا الهدف النبيل. ولكن على عكس ما هو شائع، فإن "الكذب" يستنزف من صاحبه جهودًا مضاعفة لإقناع الطرف الآخر بالتصديق، لذلك فليس من المستغرب إطلاقًا أن يصدق "الكاذب" هو نفسه كذبته، حتى يسهل عليه تسويقها وإقناع الآخرين بها!

وفي خضم تلك الدوامات المتتالية من الأكاذيب المتوالدة تلقائيًا مع مرور الوقت، يترسخ هذا السلوك المشين في نفوسنا، ويتحول إلى سمة متأصلة تسيطر على جميع جوانب حياتنا وتتغلب تدريجيًا على ضمائرنا وأخلاقنا الرفيعة. وفي لحظة ما، نتوهم أن الكذب هو المسار الأيسر لتحقيق مآربنا الشخصية، والطريق الأكثر أمانًا لحماية أنفسنا من المخاطر المحتملة، والوسيلة الأنجع لاقتناص المكاسب وتحقيق الغنائم، بينما نحن في الواقع نؤسس لحالة من النفاق الذاتي والمجتمعي التي سرعان ما ستنكشف أوراقها ويزول زيفها.

تأمل اليوم وتابع عن كثب وبتحليل دقيق ما يجري على منصات التواصل الاجتماعي المتنوعة من محتوى متنوع، ولاحظ كم الشائعات والأكاذيب، بل ومحاولات التضليل و"التجميل" التي يلجأ إليها "فرسان" هذه المنصات، بهدف حصد الإعجابات وإشباع نهمهم للشهرة ولفت الأنظار إليهم. ولاحظ أيضًا كم من السيناريوهات والحكايا والمواقف "الكاذبة" التي يختلقها بعض هؤلاء المشاهير ليصبحوا حديث الساعة والشارع، حيناً بقصد كسب التعاطف واستدرار العطف، وحيناً آخر لتشويه سمعة منافسيهم واغتيال شخصياتهم، وحيناً ثالث لتضخيم ثرواتهم وإخفاء عيوبهم، وحيناً آخر لحماية بريق نجوميتهم من الأفول والاندثار!

ومع هذا الاتساع المذهل لرقعة تلك "الأكاذيب" وتكاثر ميادينها وأصنافها المتنوعة، ستكتشف أننا بتنا نعيش في بيئة كاذبة ومخادعة، وسيزداد حذرك وتشككك بكل ما يحيط بك. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية في هذا التمدد الهائل لتلك الظاهرة المقيتة وغلوها وتعديها على مبادئنا الإنسانية السامية، وهي إشكالية لا يمكن ردعها بقانون أو نظام صارم، بل تتطلب مراجعة صادقة للذات وبداية جادة من الداخل!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة